فصل: مطلب الواقعة الأولى على بني إسرائيل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب واقعتا بني إسرائيل وتبدل الأحكام بتبدل الأزمان:

وخلاصة القصتين على ما ذكره الأخباريون من القصاص أن بني إسرائيل كانوا قبل داود عليه السلام، إذا ملك اللّه عليهم ملكا بعث معه نبيا يسدد أمره ويرشده، فلا يستبد بشيء دون مشورته، وكانوا تابعين لأحكام التوراة، إذ لم ينزل اللّه لهم كتابا بعدها إلى زمن عيسى عليه السلام، إذ أنزل عليه الإنجيل بتعديل بعض أحكامها فيما يختص بالمعاملات وفروع بعض العبادات أما ما يتعلق بأصول الدين الثلاثة الاعتراف بالإله الواحد والنبوة والرسالة والبعث والحساب، فمكلف بها جميع الخلق من نشأتهم إلى إبادتهم، لأنها لا تقبل التعديل ولا التأويل البتة، أما القاعدة الشرعية وهي تبدل الأحكام بتبدل الأزمان فهي خاصة بالمعاملات بين الناس فقط، أما ما يتعلق بالعبادات وفروعها فلا تبديل ولا تغير، على أنه قد يقع بعض تغير في فروع العبادات من حيث القلة والكثرة في العود والأوقات ونوع التوبة والعفو والقصاص ومقدار الزكاة ولزوم الحج والرخص والعزائم وشبهها كما سيأتي في الآية 37 فما بعدها من سورة الشورى في ج 2، قالوا لمّا صار الملك إلى رجل منهم يدعى صديقه بعث اللّه معه أشعيا عليه السلام نبيا وكان من جملة ما بشر به هذا النبي قومه قوله أبشري أورشليم يريد أرض سليمان لأن أور بمعنى أرض، وشليم بمعنى سليمان، إذ لا يوجد حرف السين بالعبراني، ولذلك يسمون موسى موشي وهي أراضي فلسطين المعروفة، الآن يأتيك راكب الحمار يعني عيسى عليه السلام ومن بعده صاحب البعير يعني محمدا صلّى اللّه عليه وسلم قالوا وكانوا على أرغد عيش وأحسن حال ثم بعد زمان طويل كثرت فيهم الأحداث فغيروا وبدّلوا وطغوا وبغوا وكان ملكهم تمرض فجاءه النبي وقال له، إن سنجاريب ملك بابل ومعه ستمائة الف راية قد نزل بك وقد هابه جميع الناس خوفا منه، فقال يا نبي اللّه هل جاءك وحي من اللّه بشأني؟ فقال أوحى اللّه لي أن توصي وتستخلف من تشاء على ملكك، فإنك ميّت، فأقبل الملك على ربّه وصلى ودعا وتضرع وبكى بقلب مخلص قالوا فاستجاب اللّه دعائه وأوحى إلى نبيه بأنه أخر أجله خمس عشرة سنة، وان يجعل ماء التين على قرحته فيشفى، فأخبره النبي ففعل ما قاله له وشفي، ثم قال للنبي اسأل ربك أن يجعل لنا علما بما هو صانع في عدونا، فأوحى اللّه إلى النبي أن يقول للملك إن اللّه تعالى بسبب إخلاصه كفاه شر عدوه، وانهم سيصبحون غدا كلهم موتى إلا سنجاريب وخمسة من كتابه أحدهم بختنصر، فأخبر الملك بذلك وإذا بالصباح صوت الصارخ يصرخ على باب المدينة يا ملك بني إسرائيل إن اللّه قد كفاك عدوك فخرج الملك وبعد أن رأى فعل اللّه بعدوه أمر بإحضار سنجاريب والخمسة الباقين معه، فأحضروهم إلى قصره، فلما رآهم أذلاء أمامه خرّ للّه ساجدا وبقي من الصبح إلى العصر، ثم رفع رأسه فإذا هم لا يزالون وقوفا فقال لسنجاريب كيف رأيت فعل ربنا بكم؟ فقال سنجاريب: أتانا خبره قبل أن نخرج إليكم ولم نطع المرشد، والقانا في الشقاء قلة عقولنا، فقال له الملك، إن اللّه تعالى لم يبقك وكتبتك إلا لتزدادوا شقاء في الدنيا وعذابا في الآخرة ولتخبروا من وراءكم بما فعله ربنا فيكم، إذ أهلك جيوشكم كلها على غير علم منا ومنكم، فاذهبوا وأنذروا قومكم بذلك لئلا تحدثهم أنفسهم بغزونا ثانية، قالوا نفعل ثم أمرهم وأذن لهم بالانصراف، فذهبوا ولما وصلوا بابل أخبروا قومهم بما وقع فيهم فجاء إليهم السحرة والكهان وقالوا قد أخبرناكم بربهم، فلم تقبلوا منا فكان ما كان ثم ان سنجاريب مات واستخلف بختنصر المار ذكره آنفا في الآية الخامسة، وما قيل أنه كان حفيد سنجاريب لم يتثبت من صحته، فقام بأمر قومه بعده، وقضى فيهم بقضائه، ثم بلغه أن مات ملك إسرائيل وأنهم تنافسوا على الملك وقتل بعضهم بعضا، ولم يصغوا إلى نبيهم ولم يسمعوا له قولا وأنهم لما شدّد عليهم بالوعظ والزجر والتهديد والتخويف عدوا عليه ليقتلوه فهرب منهم فانفلقت له شجرة ودخل فيها فوضعوا المنشار على تلك الشجرة ونشروها حتى قطعوه في وسطها نصفين، وإن الملك كان استخلف عليهم ناشئة بن أحوص، ثم بعث اللّه لهم نبيّا ليسدّد أمرهم اسمه أرميا بن خليقائي من سبط هارون بن عمران.

.مطلب الواقعة الأولى على بني إسرائيل:

ثم عظمت فيهم الأحداث وأكثروا الفساد فأوحى اللّه إلى نبيهم أن يبلغهم سوء عاقبتهم ويذكرهم بأحوال الأمم السابقة المهلكة، وأسباب إهلاكهم وإنجاء المؤمنين منهم، وبين لهم ثواب الطاعة وعقاب المعصية، وان ينذرهم بأن اللّه تعالى أقسم بعزته وجلاله أنهم إن لم ينتهوا عما هم عليه ويتوبوا إلى اللّه ليقيضن لهم فتنة يتحير فيها الحليم، وليسلطن عليهم جبارا قاسيا يلبسه الهيبة وينزع من صدره الرحمة، يتبعه عدد مثل سواد الليل، فأبلغهم ذلك نبيهم فلم يلتفتوا إليه ولم يصغوا لقوله، فأوحى اللّه إلى نبيهم أرميا عليه السلام أبلغهم إني مهلكهم بيافث من أهل بابل، فقبضوا على نبيّهم وحبسوه بدل أن يسمعوا له ويطيعوه، فسلط اللّه عليهم بختنصر وأوقع في قلبه غزوهم، فخرج إليهم في ستمائة ألف راية من جنوده ووطئ بلادهم ودخل بيت المقدس، وقتل بني إسرائيل الذين هم فيه شر قتلة، وأدام القتل فيهم حتى أفناهم وخرّب بيت المقدس وحرق ما فيه من كتب وأمر جنوده فملأوه ترابا، ثم أمرهم أن يجمعوا من بلاد القدس من بقي منهم، فجمعوهم وأحضروهم بين يديه فاختار منهم سبعين ألفا وقسمهم بين ملوكه، وخرج بهم والغنائم التي أخذها منهم وأثاث بيت المقدس، ثم فرق من بقي من بني إسرائيل ثلاث فرق فرقة قتلهم وفرقة سباهم وأسكن الثالثة بالشام، وتركهم وذهب لبلاده ظافرا، وهذه هي الواقعة الأولى التي حذر اللّه بني إسرائيل منها قالوا ولما وصل بختنصر بمن معه بابل وأقام في سلطانه ما شاء اللّه أن يقوم، رأى رؤيا عجيبة، وهي أنه رأى شيئا أصابه فأنساه الذي رأى، فدعا دانيال وجنايا وعزاريا وميشائيل من ذراري أنبياء بني إسرائيل الذين هم في جملة السبايا، وسألهم تأويل رؤياه، فقالوا أخبرنا بها نخبرك بتأويلها، فقال لهم ما اذكرها لأني رأيت شيئا أنسانيها وكذلك نسيت الشيء الذي رأيته، فأنسانيها، ولم يبق شيء بفكري أبدا لا من الرؤيا ولا من الذي أنسانيها لشدة هول ما رأيت، ولئن لم تخبروني بتأويلها وبالذي أنسانيها لا نتزعن أكتافكم، فاستمهلوه وخرجوا من عنده فدعوا للّه وتضرعوا إليه، فأوحى اللّه إليهم بها وبالذي أنساها له، فجاؤا إليه فقالوا له رأيت تمثالا قدماه وساقاه من فخار، وركبتاه وفخذاه من نحلس وبطنه من فضة، وصدره من ذهب، ورأسه وعنقه من حديد، قال صدقتم قالوا وبينما أنت تنظر إليه وقد أعجبك أرسل اللّه صخرة من السماء فدقته، فهي التي أنستك ذلك، قال صدقتم فما تأويلها؟ قالوا إنك رأيت الملوك بعضهم كان ألين من بعض ملكا، وبعضهم كان أشد ملكا، فالفخار أضعفه وفوقه النحاس أشد منه ثم الفضة أحسن منه وأفضل والذهب أحسن من الفضة وأفضل والحديد هو ملكك، فهذا أشد وأعز مما قبله لأنه آلة الحرب وقوام النصر يكون فيه، والصخرة التي رأيت أرسلها اللّه من السماء فدقته فنبيّ يبعثه اللّه من السماء فيدق ذلك أجمع ويصير الأمر إليه شئت أم أبيت، قالوا فسكت وأذعن ولم ينبس بشيء لأنه كان حاضرا واقعة سنجاريب المارّة آنفا ووقر في قلبه أن اللّه تعالى يغتار لأنبيائه وقد صدقهم لأنهم أخبروه بشيء لا يعلمونه، وانهم علموه بإعلام اللّه إياهم، فتركهم ولم يكلمهم، قالوا ثم ان أهل بابل قالوا لبختنصر أرأيت هؤلاء الغلمان الإسرائيليين، فإنا قد أنكرنا نساءنا منا منذ كانوا معنا حيث انصرفت وجوههن عنا إليهم، فاخرجهم من بين أظهرنا واقتلهم، فقال شأنكم بهم فمن أحب منكم أن يقتل من عنده فليفعل، أما أنا فلا أفعل بهم شيئا فلما قربوهم للقتل بكوا وتضرعوا إلى اللّه عز وجل فوعدهم اللّه أن يحييهم، قالوا فقتلوهم إلا من كان عند بختنصر، ثم لما أراد اللّه تعالى إهلاك بختنصر انبعث فقال لمن عنده من بني إسرائيل أرأيتم هذا البيت الذي خربته والناس الذين قتلتهم منكم، قالوا البيت للّه ومن قتلت أهله كانوا من وزراء الأنبياء، فظلموا وتعدوا حدود اللّه فسلطك ربك وربهم رب السموات والأرض عليهم بذنوبهم فهلكوا، فلم يعجبه قولهم لأنهم لم يسندوا له شيئا من ذلك ولم يصفوه بصفة أو عزة، فدخل إبليس في أنفه فاستكبر وتجبر وظن أنه فعل ما فعل بقوته وسلطانه، فقال أخبروني كيف أطلع إلى السماء فأقتل من فيها وأدخلها في ملكي لأني قد فرغت من أهل الأرض ومن هنا، قيل ملك الأرض أربعة كافران بختنصر ونمروذ، ومؤمنان سليمان وذو القرنين.
قالوا لن تقدر على هذا، قال لتفعلن أو لاقتلنكم عن آخركم، فبكوا وتضرعوا إلى اللّه تعالى قالوا فبعث اللّه عز وجل على بختنصر بعوضة دخلت في منخره حتى عضت أم دماغه، فما كان يقر ولا يسكن حتى يوجا له رأسه أي يضرب على فم؟؟؟ دماغه، ولم يزل كذلك حتى مات، فشقوا رأسه فوجدوا البعوضة عاضة على أم دماغه، ليري اللّه العباد قدرته بأن أهلكه بأضعف خلقه كما أهلك أخاه النمروذ، ونجى اللّه من بقي من بني إسرائيل وردهم إلى الشام، فنموا وكثروا وتحولوا حتى صاروا على حالة أحسن مما كانوا عليها قبل، وزعموا أن اللّه تعالى أحيا أولئك الذين قتلوا في بابل ولحقوا بهم إلا أنه لم يكن عندهم من اللّه عهد يرجعون إليه في أموره، لأن التوراة أحرقت وكذلك بقية الصحف مما كان في البيت، وكان عزير من السبايا الذين كانوا ببابل، فلما رجع معهم إلى الشام صار يبكي ليله ونهاره وخرج عن الناس، فجاءه رجل فقال له ما يبكيك، قال ابكي على كتاب اللّه وعهده الذي كان بين أظهرنا لأنه لا يصلح ديننا ودنيانا غيره، قال أن يردهم اللّه عليك؟ قال نعم قال ارجع إلى بيتك فصم وتطهر وطهر ثيابك وموعدك هذا المكان غدا، فرجع إلى بيته وفعل ما أمره به ذلك الرجل، ثم عمد ورجع إلى المكان الذي وعده به، فجلس فيه فأتاه ذلك الرجل باناء فيه ماء وهو ملك بعثه اللّه إليه فسقاه فتمثلث التوراة في صدره، فرجع إلى قومه فأملى لهم التوراة من صدره وكان منهم من يعرفها فأحبوه حبا شديدا وعملوا بها وصار حالهم على أحسن ما يرام، وهو معنى قوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ}
الآية المارة، ثم قبض اللّه روح عزير عليه السلام فطال عليهم الأمر في الراحة والعبادة وانقلب أمرهم إلى الفساد وصاروا كلما جاءهم نبي كذبوه وأحدثوا الأحداث العاطلة وطغوا وبغوا وعمدوا إلى قتل الأنبياء الذين ينهونهم ويحذرونهم عاقبة أمرهم، وصاروا يقتلون الأنبياء بغير حق، وآخر أنبيائهم زكريا عليه السلام هرب منهم لما أرادوا قتله إلى شجرة هناك، فدخلها فنشروه نصفين فيها كما فعلوا بأشعيا، وتصدوا لقتل عيسى عليه السلام لتحق عليهم كلمة العذاب فوقاه اللّه منهم ورفعه إلى السماء وألقى شبهه على المنافق يهوذا الأسخريوطي الذي دلهم عليه فقتلوه على ظنهم أنه هو عيسى ابن مريم كما سيأتي تفصيله في الآية 54 فما بعدها من سورة آل عمران والآية 156 فما بعدها من سورة النساء من ج 3 فاستحقوا عذاب اللّه وسخطه الذي وعدهم به للمرة الثانية:

.مطلب الواقعة الثانية على بني إسرائيل:

فبعث اللّه عليهم ملك ملوك بابل يقال له خردوش فسار إليهم بملوكه وجيوشه حتى دخل الشام وظهر عليهم فأفناهم قتلا وأسرا ونهبا وأمر قائده أن يديم القتل فيهم في بيت المقدس حتى يسيل الدم في وسط المعسكر، وقال له اني حلفت بإلهي أن أفعل فيهم هكذا إن ظفرت بهم، فدخل القائد واسمه بيور زاذان المدينة، وصار يقتل فيهم فرأى في البقعة التي يقربون فيها القرابين أي يذبحون فيها الصدقات دما يغلي، فسألهم عنه فقالوا هذا دم قربان لنا قربناه فلم يقبل منا فلذلك صار يغلي وانا منذ نمنمئة سنة لقرب القرابين فتقبل منا إلا هذا، فقال ما صدقتموني، فقالوا لو كان أولى زماننا لقبل ولكن انقطع عنا الملك والنبوة والوحي، فلذلك لم يقبل فلم يصدقهم.
فذبح على ذلك الدم سبعمئة وسبعين روحا من رؤسائهم، فلم يهدأ الدم فذبح سبعمئة غلام منهم، فلم يهدأ أيضا فذبح سبعة آلاف من شيبهم وأزواجهم فلم يهدأ، فقال لهم ويلكم أصدقوني عن هذا الدم قبل أن أفنيكم فلا أترك منكم أحدا، فلما رأوا الجهد وشدة القتل وتصميمه على ما قال قالوا له هذا دم نبي كان ينهانا عن سخط اللّه ويأمرنا بالخير ويهددنا ما أوقعتموه فينا الآن فلم نصدقه وقتلناه واسمه يحيى بن زكريا، فقال الآن صدقتم لمثل هذا ينتقم اللّه منكم، فأمر بإغلاق المدينة وإخراج من كان معه من الجيش وخرّ ساجدا للّه تعالى، ثم رفع رأسه وخلا في نبي إسرائيل وقال يا يحيى بن زكريا قد علم ربي وربك ما أصاب قومك من أجلك ومن قتل منهم، فاهدا بإذن اللّه ربك قبل أن أهلكهم جميعا، فإني مكلف من قبل الملك خردوش بإدامة القتل حتى يسيل الدم إلى معسكره، قالوا فهدأ الدم بإذن اللّه تعالى ورفع بيور زاذان عنهم القتل وقال آمنت بما آمنت به بنو إسرائيل وأيقنت أن لا رب غيره، ثم التفت إلى بني إسرائيل وقال لهم إني لا أستطيع مخالفة الملك من لزوم إسالة الدم إلى معسكره، قالوا افعل ما أمرت به، فأمرهم فحفروا خندقا وأمرهم بذبح البقر والحمير والأنعام فذبحوها وأجرى دمها حتى سال إلى المعسكر، ثم امر بالقتلى فطرحوا فوق تلك الحيوانات حتى إذا كشف الملك لا يظن أنه فعل ما فعل من الحيلة خلافا لأمره فيغضب عليه، فلما رأى خردوش الدم وصل إلى المعسكر بعث إليه أن إرفع عنهم القتل، ثم أخذ جنوده وغنائمه وعاد إلى ملكه، وكاد أن يفني بني إسرائيل عن بكرة أبيهم في هذه الواقعة لولا الحيلة التي فعلها القائد رحمه اللّه، وهذه الواقعة الأخيرة وهي أعظم من الأولى وقد انتقل الملك إلى الشام ونواحيها وإلى الأردن بسبب خراب القدس وضواحيها في هذه الواقعة وسلب اللّه منهم ما أنعم به عليهم من أموال وأولاد وملك، وشتتهم في البلاد فلم تقم لهم راية بعد ذلك، إذ تعقبهم طيطوس بن اسبانوش الرومي فخرب ما بقي من بلادهم، وطردهم عنها، ونزع منهم بقية الملك والرئاسة، وضربت عليهم الذلة والمسكنة، وبقوا مشتنين في المدن والقرى وأينما حلوا حل بهم الصغار وفرضت عليهم الجزية، وبقي بيت المقدس خرابا إلى خلافة سيدنا عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه فعمره المسلمون بأمره في خلافته، ثم جدده على ما هو عليه الآن سليمان بن عبد الملك وابنه الوليد.

.مطلب قتل يحيى عليه السلام:

قالوا والسبب في قتل يحيى أن ملكهم في زمنه كان يكرمه ويجلس معه ويدنيه منه، وأن الملك هوي بنت أخيه التي أمها زوجته فسأل يحيى أن يتزوجها فنهاه عن نكاحها لأنها لا تحل له، فبلغ أمها ذلك فحقدت على يحيى وعمدت ذات يوم حين جلس الملك على شرابه فألبستها ثيابها وزينتها وطيبتها وأرسلتها إلى الملك وأمرتها تسقيه، فإذا راودها عن نفسها أبت عليه حتى يعطيها ما سألته، فإن أعطاها سألت رأس يحيى وأن يؤتى به على طبق، ففعلت فلما راودها قالت له لا أوافقك؟؟؟ تعطيني ما سألت، قال فما تسألين؟ قالت رأس يحيى وأن يؤتى به على طبق، قال سلي غير هذا، قالت لا أريد غيره، فلما أبت عليه وقد لهبت الشهوة في نفسه الخبيثة أجاب طلبها وأمر بذلك، فذهبت شرطنه فأمسكوا به وذبحوه وأتوا به في طست، فوضع بين يديه، فلما رآه تكلم الرأس فقال لا يحلّ لك زواجها، يصغ له لاستيلاء النفس البهيمية على جوارحه فواقعها، ولما أصبح رأى دمه يغلي محل ذبح القرابين، فأمر بإلقاء التراب عليه، وكلما وضع عليه التراب رقى الدم، زال يلقى عليه التراب وهو يغلي حتى سلط اللّه عليهم ملك بابل وفعل ما فعل.